مش وجهه… بس هاي ايده، وأنا متأكدة”. في الممرّ البارد لمجمع ناصر الطبي، لا يُسمع سوى همسات مكسورة، وبكاء مكتوم، وخطوات أمهات يقتربن من العربات الباردة التي تحوي أبناءهن… لا للتوديع، بل للتعرّف.
في وداعٍ يفتقد أبسط ملامح الود، وقفت أمٌ على جثمان ملفوف بكفن، تنظر في صمت، ثم تجهش بالبكاء: “هذا هو… عرفتُه من أثر الجرح القديم في قدمه اليسرى!”.
هكذا تُودّع غزة أبناءها العائدين من سجون الاحتلال بلا ملامح. تحوّلت لحظة استقبال الشهيد إلى لحظة تحقق مؤلمة، حيث لا تُعرّف الجثث بالوجوه، بل بندبة قديمة، أو إصبع مبتور، أو حتى بخاتم لم يُغادر يده.
في مشاهد أقرب إلى الخيال، تقلب العائلات الصور، تتفحص الجثث، تتداول التفاصيل: هل هذه يده؟ أليس هذا الحرق من الطفولة؟ الخاتم هذا لا يُفارق إصبعه! مشاهد تفيض ألماً وغصة، حين يصبح التعرف على الابن معركة لاستعادة الذكرى من أنقاض الجسد.
تقول الناجية من الإبادة في غزة، أفنان القريناوي: “تعرفت على جثمان زوجي من خلال أظافره والشق الأيمن من وجهه، إضافة إلى إصابة قديمة في ظهره تعرّض لها خلال مسيرات العودة”.
وأشارت في حديث مع مراسلة “قدس برس” إلى أن آثار الضرب على جثمان زوجها تشير إلى أن الاحتلال اعتدى عليه بعد استشهاده، رغم مقتله برصاصة في الرأس قبل اعتقاله.
وتتابع: “أعتقد جازمة أن الاحتلال يحتفظ بقائمة بأسماء الجثامين وهويات أصحابها، لكنه يخفيها عمداً لزيادة معاناتنا في التعرف عليهم”.
وشددت على أن جثامين الشهداء كافة فقدت إصبعًا أو جزءًا من الجسد، ما يدل على أن الاحتلال أخذ عينات DNA من كل جثمان قبل تسليمه.
وتردف: “عظم الوجع بتشوه جثمان زوجي، إلا أننا أصبحنا نعرف مكان قبره ونستطيع زيارته… وحده يمنحنا بعض السلام”.
لم تكن تجربة الصحفية أسماء الصانع في التعرف على جثمان زوجها الشهيد سلامة العروقي سوى تجربة قاسية تلف بها حسرة تشوه الجثمان قلبها، ويأكل الحزن جوفها.
تقول: “أبحث بعيون شاخصة وأصابع مرتجفة بين صور شهداء عظماء؛ وجوه بالكاد تُرى ملامحها، أسنان، أيادٍ، ملابس، أقدام لحمها مفصول عن عظمها… أدقق في أيديهم وبناطيلهم وأحذيتهم حتى يغيب عقلي لهول ما أرى”.
وتضيف: “توقفت عند وجه جميل كالملاك، لم يكن زوجي، لكني قلت: ستعرفه أمه أو زوجته. ثم رأيت حذاءً يشبه حذاء أبو يحيى، لكن شيئاً داخلي قال إنه لا يكفي”.
وتتابع: “قلبي بات أشلاء، لكنني أواصل البحث. لست بطلة، لكني إنسانة تبحث عن وداعٍ أخير… قبلة على بقايا جثة أو قطعة قماش. لا لغة تصف هذا العذاب، لكن كفى بالله شهيداً”.
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ارتكبت قوات الاحتلال، بدعم أميركي وأوروبي، إبادة جماعية في قطاع غزة، شملت القتل والتجويع والتهجير والتدمير، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقف العدوان.
وقد أسفرت الحرب عن استشهاد وإصابة أكثر من 238 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أودت بحياة كثيرين، فضلًا عن دمار شامل طال معظم مدن ومناطق القطاع، حتى باتت خارطة غزة تُرسم بالأنقاض.
وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التوصل إلى اتفاق مرحلي بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة “حماس”، إثر مفاوضات غير مباشرة في شرم الشيخ، بمشاركة تركيا ومصر وقطر، وبإشراف أميركي.
وبموجب الاتفاق، أطلقت “حماس” في 13 تشرين الأول/أكتوبر سراح 20 أسيرًا إسرائيليًا أحياء، فيما تشير تقديرات إسرائيلية إلى وجود جثامين 28 أسيرًا آخرين، تسلّمت منهم أربعة حتى الآن.
وتشمل المرحلة الثانية من الاتفاق تشكيل “لجنة الإسناد المجتمعي” لتسيير الأمور في قطاع غزة، ومتابعة تدفق المساعدات ومشاريع إعادة الإعمار.
SOURCE: QUDS PRESS INTERNATIONAL NEWS AGENCY