بين ركام البيوت المتساقطة وأطلال الشوارع التي كانت تضج بالحياة قبل عامين فقط، ما يزال مئات الآلاف من النازحين من محافظة خان يونس يعيشون مصيرا غامضا، غير قادرين على العودة إلى مناطقهم رغم دخول وقف إطلاق النار أسبوعه الثالث.
خان يونس، الواقعة جنوب قطاع غزة، تمتد على مساحة 109 كيلومترات مربعة، تمثل نحو ثلث مساحة القطاع، ويقطنها أكثر من نصف مليون نسمة، أما اليوم فتبدو المدينة أشبه بظلها القديم، وقد صارت أحياؤها ممرات موحشة يقف فيها الخراب شاهدا على حرب لم تبقِ شيئا على حاله.
اجتياحان.. ومدينة تنهار بالكامل
خلال جولة ميدانية أجراها مراسل “قدس برس” في المحافظة، يظهر بوضوح أن المدينة لم تعد كما كانت قبل الاجتياحين المتتاليين، فبينما بلغت نسبة الدمار بعد الاجتياح الأول بين (ديسمبر2023_ وأبريل 2024) نحو 60%، جاء الاجتياح الثاني بين (مايو_ وأكتوبر2025) ليكمل ما تبقى، ويمحو الأحياء الشرقية والشمالية والجنوبية للمدينة بالكامل.
اعتمد جيش الاحتلال في اجتياحه الأخير سياسة تفجير مربعات سكنية كاملة باستخدام عربات مفخخة، خلافا للاجتياح الأول الذي اعتمد فيه على القصف الجوي ونسف المنازل بشكل منفصل، ولا تزال هياكل تلك العربات المحترقة منتشرة في الشوارع، شاهدة على الطريقة المدمّرة التي أُفرغت بها المدينة من ملامحها.
بنى تحتية معدومة.. ومدينة بلا حياة
داخل المدينة، لا أثر لخدمات أساسية، فشبكات المياه والصرف الصحي دمرت بالكامل في مناطق واسعة، من بينها البلد والكتيبة والقرارة وبني سهيلا وعبسان وجيزان النجار والبطن السمين، أما الطرق الإسفلتية سوّيت بالجرافات وتحولت إلى طرق طينية متعرجة، ما شكل عائقا أمام طواقم البلديات لإيصال المياه وربط شبكات الصرف الصحي، لتصبح آمنة ومشجعة لعودة الأهالي.
خلال جولتنا التقينا بالحاج أبو محمد راضي على مشارف الستينات من العمر يقيم في خيمة أقامها داخل إحدى المنازل المدمرة بالقرب من عمارة جاسر الفرا على امتداد شارع البحر، يقول لنا: “عدت منذ أيام من منطقة المواصي، فككت خيمتي ونصبتها داخل إحدى الشقق المدمرة في البناية التي كنت أسكن فيها قبل الحرب، علها تقيني قليلا من برد الشتاء القادم، ولكني كما ترى أعيش تقريبا بمفردي دون أي جيران”.
يفسر أبو محمد عزوف الناس عن العودة بالإشارة إلى أن “الكثير من العائلات تأتي يوميا لتفقد مناطق سكنها، ثم ما تلبث أن تعود أدراجها من حيث أتت، وذلك بسبب افتقار المنطقة لأي من خدمات المياه والصرف الصحي”.
يستدرك أبو محمد حديثه لـ”قدس برس” قائلا: “لتفادي هذه الأزمة صممت عربة من أربع عجلات، أضع عليها يوميا عدة غالونات من المياه، وأقوم بجرها إلى مستشفى ناصر لتعبئتها بالمياه، ثم أعود لتفريغها في خزان المياه داخل خيمتي. ومع ذلك فإن هذه العملية صعبة ومجهدة في الوقت الواحد، فمن ناحية المسافة فإن أقرب نقطة لتعبئة المياه تبعد نحو 500 متر، أما الطرق الرملية فعيق تعيق جر العربة”.
على مقربة منه كانت إحدى العائلات بصدد إقامة خيمة لها على جانبي الطريق، سألناهم عن تأخرهم بالعودة، حيث أن الهدنة دخلت أسبوعها الثالث، فقالت لنا السيدة أم راجي الفرا أن: “العمارة التي كنا نقيم فيها دمرت بالكامل، واستغرقنا وقتا حتى تمكنا أخيرا من استئجار جرافة لتزيل الركام وتفتح لنا الطريق لنتمكن من نقل خيمتنا من منطقة العطار بالمواصي إلى داخل الحي الذي كنا نسكنه سابقا قبل تدميره”.
تضيف أم راجي لـ”قدس برس”: “خلال الاجتياح الأخير فقدنا منزلين كانا يقيمان فيها أبنائي، بعد أن فقدنا منزل العائلة في الاجتياح الأول. حاولنا استصلاح بعضها ولكن هناك خطر يكمن بأن يتعرض السقف للانهيار بسبب تصدعه وانهيار جزء منه”.
شرق المدينة.. الرصاص لا يتوقف
توجهنا شرقا نحو دوار بني سهيلا، الذي كان يوما قلب المدينة، ويضم العشرات من المقار الرئيسية والخدماتية مثل مبنى البلدية، شركات الاتصالات، وزارات الصحة والداخلية والتعليم والنقل، إضافة لعشرات المقاهي والمتاجر، أما اليوم فبات المكان موحشا سوى من بضعة قطط يجوبونه بحثا عن بعض الطعام.
حتى وقت قريب كان هذا الميدان نقطة عسكرية متقدمة لجيش الاحتلال، والمعروف باسم محور “ماغين عوز” الذي أقامه جيش الاحتلال لفصل شرق المدينة عن غربها.
في ظل الدمار الواسع الذي لحق بالمنطقة، وغياب المباني التي كانت تشكل حاجزا واقيا، تصل بعض الطلقات التي تصيب المواطنين من الدبابات الإسرائيلية المتمركزة في محور موراج جنوبا، ومن المواقع الواقعة خلف الخط الأصفر شرقا.
وارتكبت دولة الاحتلال منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 -بدعم أميركي أوروبي- إبادة جماعية في قطاع غزة، شملت قتلا وتجويعا وتدميرا وتهجيرا واعتقالا، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة أكثر من 239 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين معظمهم أطفال، فضلا عن الدمار الشامل ومحو معظم مدن القطاع ومناطقه من على الخريطة.
وعلى مدى عامين من حرب الإبادة في غزة، أسفر تصعيد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين بالضفة الغربية عن مقتل 1062 فلسطينيا وإصابة نحو 10 آلاف آخرين، إضافة إلى اعتقال أكثر من 20 ألف شخص بينهم 1600 طفل.
SOURCE: QUDS PRESS INTERNATIONAL NEWS AGENCY